تأملات في البحث العلمي
هب أن أحدًا طموحًا من أبناء الوطن أراد أن يشارك في الحوار العلمي الدائر حول العالم، في ما نشاهد من تطورات في الذكاء الاصطناعي مثلا أو الفيزياء أو الكيمياء، الخ.. —هنالك الكثير من الحوارات العلمية التي تتباحث آخر تطورات كل مجال. تكون المشاركة بطبيعة الحال بإضافةٍ فكرية أصيلة تثري مخزون المعرفة البشري. كيف لصاحبنا أن يفعل ذلك؟ يضطر هو إلى الابتعاث في دراساته العليا -على الأقل- ليدرس تحت إشراف خبير في مجاله، ويتحصل على التدريب الكافي ليشارك في مؤتمرات علمية (غربية) في مجاله ويتبادل الأفكار مع المجتمع البحثي (الغربي) حتى ينشر مشاركاته في المجلات العلمية (الغربية).
ولست ضد هذا أبدًا (بل معه). حيث أن العلم لا يعرف حدود بلد أو لغة. وكلما ازدادت حواجز الحوار قل التلاقح الفكري وجودة المخرجات. ولكن هذا النموذج يخلق مشكلتين على الأقل: أولاهما هو أن هذا النموذج لا يتسع للجميع، وثانيهما هو أنه نموذج غير مستدام.
حينما أقول أن هذا النموذج لا يتسع للجميع فأقصد هذا من ناحية التكلفة المادية للابتعاث، ومن الناحية الشخصية والاجتماعية لمن أراد إكمال مسيرته الأكاديمية. في نظري أن الاستثمار في البحث العلمي شبيه جدًا بالاستثمار الجريء من الناحية التالية: نريد دعم أكبر عدد من الباحثين لعل أحدهم يحالفه الحظ في إيجاد فكرة ثورية. ولذلك، يجب أن نبتنى نموذج يدعم أكبر عدد ممكن من المهتمين في متابعة هذا المسار.. فإذا كانت فرص الابتعاث محدودة بميزانية لابتعاث عدد معين فهذا عائق، وإذا كانت الظروف الشخصية أو الإجتماعية للشخص تمنعه من الابتعاث فهذا عائق آخر.
ولكن، قل أننا نملك خزائن قارون وكلٌ يريد الابتعاث.. وانتفت المشكلة الأولى. يبقى هذا النموذج ناقص لأنه غير مستدام. وأقصد بهذا هو أن الباحث إذا تشكل تحت المؤسسات الغربية (بعد استجدائهم لقبوله في الجامعة والمجتمع، وعمله على ما يهم هذه المؤسسات) ، وتدرب على الحديث بلغة المجتمع البحثي الذي كان منخرطا به، يصعب عليه أن يكمل إنتاجيته إذا ما عاد إلى وطنه. لأنه يفتقد إلى المؤسسات التي تعوّد أن يتعامل معها.. فلا المجتمع البحثي هو ذاته –إن وجد، ولا المؤسسات هي ذاتها. فأقرب ما يكون كأنه شجرة اقتلعت من تربة إلى… القمر.
مالحل إذا؟ هو وجود مجتمع وبيئة علمية في وطننا. أظن أن “المجتمع” من ناحية الأفراد موجود، فلا تنقصنا العقول ولا ينقصنا المتعلمين -ربما-. ولكن المجتمع ليس مجموعة أفراد فقط، ينقص مجتمعاتنا العلمية في رأيي هوية تجمعهم ويتحاورون تحتها، وبعض الجرأة والثقة العلمية التي تجعلنا نضع المقاييس بدل أن نتبعها. أما البيئة العلمية من حيث هي مؤتمرات أو مؤسسات، فأعتقد أنها موجودة جسدًا بلا روح، وشكلا بلا مضمون يضمن تكامل هذه البيئة في إنتاج طرح علمي أصيل رصين.