دائمًا ما يُروّج أن الاجتهاد والمثابرة والجد والالتزام هم سبب النجاح. وأعتقد أن هذا كلامٌ منكوس. هذه القيم إيجابية بلا أدنى شك، ولكنها لا تُستقسر بل يجب أن تأتي طوعًا. وإذا رأينا أمثلةً ممن يجسّدون هذه القيم وقاموا بأعمالٍ خارقة نجد وراء هذه الأخلاقيات إيمان عميق بالفكرة التي يمثلها العمل الذي أفنوا حياتهم من أجله. فهذا الإيمان هو ما يبعث الحماس ويدفع للاستمرارية. ولكن ما هو مصدر هذا الإيمان؟

يستحيل أن يكون الإيمان نابعًا من الفكرة وحدها، وإلا لآمن كل الناس بنفس الأفكار. إذًا كيف يؤثر اختلاف الناس في نوع الأفكار التي يؤمنون بها وفي مدى قوة هذا الإيمان؟1 والاختلاف الجوهري بين الناس هو في تركيبتهم النفسية. لذلك، أعتقد أنه يمكن ربط كل سمة شخصية وحظ للنفس إلى نوع محدد من الأفكار. ولضرب المثل فقط بلا إطلاق أسماءٍ أو أحكام: تَجِد أن حب الظهور يرتبط باتباع الأفكار الرائجة وقد يولّد عند صاحب هذه السمة إيمانًا منقطع النظير بآخر صيحات الأفكار -وقد يكون إيمانًا صادقًا جدًا، بل قد يكون هذا الإيمان مفيد وله حسنات ويعود على صاحبه بالنفع الكثير-. ومع كثرة المشاهدة والمطالعة في طباع الناس وميولهم، ربما نتمكن من بناء تصور عام عن هذا الربط/mapping. ولكن مهما بلغنا من حذق وفهم للنفس الإنسانية فستظل الصورة ناقصة لعدم معرفتنا بخوافي النفوس. ولكن عندنا مصدر دقيق جدًا نستطيع الرجوع إليه: أنفسنا، ومنه نستطيع بناء تصور يكفي حاجتنا. لذلك، سأحاول استذكار بعض المواضيع التي ألهبت حماستي في وقت من الأوقات وأحاول البدء في تفكيك لغز ذلك الحماس للوصول إلى إجابة شخصية عن سؤال هذه التدوينة.

بفترة المتوسط والثانوي كنت أشغل جلّ وقت فراغي بتعلم البرمجة. حاولت أبحث في ذكرياتي عن الدافع وراء هذا العمل لكن خانتني الذاكرة. لذلك سألجأ في وقت ما إلى العودة إلى أرشيف ملفاتي للبحث عن أشياء كتبتها في تلك الفترة في محاولة لاستقصاء دوافعي آنذاك. ولكن ما تسعفني الذاكرة فيه بشكل واضح هو سبب ولعي بفلسفة العلم في نفس تلك الفترة. والسبب يعود إلى طريقة تدريس المواد العلمية. كنت مؤمنا بأن الطريقة التي كنا ندرّس بها تفتقر لروح العلم وجوهره. مالذي جذبني إلى الإيمان بهذه الفكرة بالذات ودفعني للعمل؟ قد يكون شكل من أشكال التمرد، وقد يكون أيضًا اشباع للفضول الذي لم يُروً في قاعة الدرس2. ثم في بدايات الجامعة، استحوذت علي فكرة بشكل تام: مبرهنات غودل. أول سبب يطري علي هو إبداعها وخروجها عن الإيمان السائد آنذاك. الكل كان يعتقد أن أي نظرية يمكن التعبير عنها بطريقة رياضية يمكن إثباتها بطريقة أو بأخرى. لم يشك أحد في ذلك. فكرة أن يأتي أحدهم ويشكك في ما لم يفكر أحد في التشكيك فيه راقت لي. ثم بعد ذلك الطريقة العبقرية التي استند عليها في إثبات مبرهنته وجمالها الذي أشبهه في ذلك جمال Turing’s undecidability results. أستطيع الإسهاب في مدى جمال هذا الموضوع ويبدو أن جذوة حماسي له لم تنطفي بعد، لكن أفضل أن أبقى على موضوعي. ماهي الصفة الشخصية اللي جذبتني لهذا الموضوع؟ باستعجال، أعتقد هو حب الdecisiveness في البت في موضوع بشكل واضح، بالإبداع في خلق آلات ذهنية تساعدنا على الوصول إلى أعماق فكرية بعيدة، وأخيرًا في ارتباط هذه المواضيع ،ولو بشكل بعيد، بفلسفة المعرفة التي تجذرت أسئلتها في نفسي3.

أخيرًا، وبعد أن نصل إلى إجابة شخصية على هذه الأسئلة: هل من المفترض أن نتعايش مع طبيعتنا ونتجه كليًا للبحث عن الأفكار التي تناسب مع تركيبتنا النفسية ونشرع في العمل عليها؟ أم يجب علينا البحث عن أكثر الأفكار قيمةً ونغير من أنفسنا لنكون ممن يؤمن في هذه الأفكار؟ وكيف يمكننا تغيير أنفسنا؟ وبمَ نقيّم جدارة الأفكار التي يجب أن نغير من أنفسنا لأجلها؟ قد يوافي الحظ بعض الناس فيجدون نداءهم في الحياة دون التفكر في هذه الأسئلة. لكن أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة تزيد من فرصنا في مثل هذا الحظ، وأن هذه الأجوبة تمكننا من أن نلعب دورًا أكثر فاعلية في توجيه دفّة حياتنا.

  1. أجد تعبيري بالإنجليزية أدق، وصياغتي الأصلية للسؤال هي: can we map personality traits to properties of ideas؟ 

  2. أحتاج أفكر زيادة بالموضوع، ولكن ما أظن إني سأسترسل في هذه الأمثلة الشخصية علنًا لأكون أكثر مصداقية مع نفسي.. قاعد أعرض هذه المواضيع لضرب المثل فقط وتوصيل الفكرة. 

  3. ألاحظ هنا بوضوح للمرة الأولى ارتباط شغفي في the gödel/turing topic مع شغفي السابق في فلسفة العلم.. هل لشغفنا اليوم دور في تشكيل شغفنا غدًا؟