مؤخرًا أجدني أفتقد لشعور التركيز والاستغراق التام في أي عمل، وهو شعور لم أعشه لمدة طويلة. السبب هو نوع محدد من الأسئلة يمنعني من الاستسلام والانقياد لموسيقى العمل؛ وكأن هذه الأسئلة تقول: “لا تفقد نفسك وتضيع وقتك لعمل لا تثق فيه، نحن اختبار لقيمة هذا العمل، أجبنا أولًا.” فأضطر حينها إلى الالتفات لهذه الأسئلة فأجدها تنهكني قبل أن أبدأ. فأنا بين نارين: التشتت أو التعطل بسبب هذه الأسئلة. لذلك، قررت أضع هذه الأسئلة تحت المجهر في هذه التدوينة لعلي أهتدي لطريقة التعامل معها.

أسمّيها “الأسئلة الماورائية” في محاولة لترجمة “meta-questions”؛ وهي أسئلة “حول” و”ما وراء” العمل بدل أن تكون في صميم العمل ذاته، مثل: ليش قاعد أسوي كذا وكذا؟ أو ما قيمة هذا العمل بالنسبة لي/بالنسبة للناس؟ أو كيف أزيد من إنتاجيتي في عمل كذا وكذا؟1. والثلاث أسئلة هذي تجي بصيغ مختلفة لكل عمل، بل وتأتي متلبّسة أحيانًا. فلو حاولنا وضعها في قوالب فهي تأتي كـ: 1) أسئلة تُعنى بعلاقة العمل في الصورة الكبيرة لحياتنا 2) أسئلة حول قيمة العمل بذاته 3) أسئلة حول كيف نحسّن من قدرتنا في تأدية العمل. يوجد أسئلة ماورائية أخرى كثيرة، لكن شخصيًا بعد مراجعة آخر كم عمل حاولته، أجد هذه الثلاث أسئلة تتكرر. حتى لو كان أسلوبي عنها في المقدمة يضعها في ضوء سلبي، أعتقد أن لهذه الأسئلة قيمة وفائدة؛ لكن كيف نستفيد منها ونتجنب خطر استنزافها لحماسنا؟ 2.

الحل اللي يتبادر للذهن أولًا هو تجاهل الأسئلة الماورائية جملةً وتفصيلا وزجر النفس عنها وتربية النفس على عدم التفكير فيها 3. لكن افترض أننا مع بداية كل عمل، رمينا بكل الأسئلة الماورائية عرض الحائط وأجبرنا أنفسنا (بطريقة ما) على الانغماس بالعمل بدون أن نسأل عن قيمة هذا العمل وفائدته؛ بل بدأناه فقط لأن الحماس اعترانا بالبداية، أو لاستمتاعنا بالعمل، الخ.. من الأسباب اللي تخلّينا نبدأ بأي عمل. ألا نخاطر حينها بإضاعة وقتنا وجهدنا؟ أو نخاطر بإلحاق الضرر بالآخرين إذا ما أمكن استعمال عملنا بطريقة غير أخلاقية4؟ فكما أنه لا يمكن تجاهل هذه المخاطر، لا يمكن تجاهل الأسئلة الماورائية.

الحل الآخر هو مواجهة هذه الأسئلة بكل شجاعة والإجابة عنها حتى تطمئن أنفسنا. لكن الإجابة عن الأسئلة الماورائية صعب، وكل إجابة تولّد أسئلة جديدة. مثلًا: كيف نعرف إذا كان عملٌ ما إضاعة للوقت أم لا؟ علشان نجاوب على هذا السؤال يجب نعرف ما معنى إضاعة الوقت أصلًا. هَب أننا اهتدينا5 إلى الجواب بأن إضاعة الوقت هي صرفه فيما لا يساعدنا على الحركة إلى الاتجاه الذي وضعناه لأنفسنا. وهذا يتطلب الإجابة عن سؤال كيف نحدد لأنفسنا اتجاه المسير؟ الخ.. خذ أي سؤال آخر، وستدخل في “جحر أرنب” لا ينتهي. بل وما يزيد الموضوع تعقيدًا هو أن الإجابة على الأسئلة الماورائية يتطلب خبرة وتجربة، وهذا لا يتم بدون عمل.

يبدو أن كلًا من العمل والسؤال يقوي أحدهما الآخر؛ فالسؤال يزيد من نضج العمل، والعمل يزيد من نضج الجواب. وفي كلا العالمين مخاطر: الخوف من الأسئلة الماورائية هو التعلّق بشباك الأسئلة أو الغرق في رمالها المتحركة؛ والخوف من العمل الأعمى الحياد عن الطريق الصحيح.

فالحل إذًا يكون في التقلّب بين ذات العمل وبين الأسئلة الماورائية والتقوي بأحدهما على الآخر. لكن كيف؟ متى؟ أين؟ …. سأذهب لأعمل وأعود.

  1. في الواقع، حتى موضوع هذه التدوينة هو سؤال ما ورائي عن الأسئلة الماورائية. فأنا غير منشغل الآن بطرح أسئلة حول عمل ومحاولة إجابتها، بل منشغل بالتفكير حول (أو الكتابة عن) هذه الأسئلة، إذًا للماورائية مستويات، فلعلي أوقف هنا خوفًا على نفسي من الجنون.. 

  2. إذًا هذه التدوينة هي من النوع الثالث للأسئلة الماورائية. بالتحديد هي محاولة لتحسين قدرتي على تأدية العمل اللي اسمه (طرح أسئلة ماورائية) 

  3. أشمئز من الحلول اللي تتضمن حمل النفس على ما تكره؛ لأنها دليل على خلل أعمق قاعدين نتجاهله. لو كان ما نريد حمل نفسنا عليه حقّ، المفروض نفسنا ترغبه، وهذا يعني وجود خلل في نفسنا لازم نعالجه حتى ترغب الحق. 

  4. فنندم كما ندم أوبنهايمر على عمله على القنبلة النووية. 

  5. هذا حاليًا هو جوابي لهذا السؤال، لكني سأستبق نفسي وأقول أن الإجابة في حالة تطور مستمر، مع كل تجربة جديدة تزداد جودة الإجابة